بين العبقرية والجنون
(هناك شعرة رقيقة جدا تفصل بين العبقرية والجنون)
(مثلما أن المرض يحيط بالصحة من كل الجهات فان الجنون يحيط بالعقل من كل الجهات)
لودفيغ فتجنشتاين...
منذ قديم الأزمان كان الناس يعتقدون بأن هناك علاقة بين العبقرية والجنون. وكانوا دائما يتحدثون عن العبقري بشيء من التهيب والوجل، فهو شخص غريب الأطوار معقد الشخصية يختلف عن جميع البشر، والواقع أننا إذا ما استعرضنا أسماء كبارا لكتاب وجدنا أن معظمهم _ان لم يكن كلهم.كانوا يتميزون بتركيبة نفسية خاصة وغير طبيعية بل إن بعضهم دخل في مرحلة الجنون الكامل. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: هولدرلين ونيتشه، وجير ار دونيرفال، وانطو نين ارتو، وفان جوخ، وغي أو دو موباسان، وفيرجينيا وولف، وشومان، والتوسير،الخ..
وقد طرح أحدهم على الكاتب الفرنسي اندريه موروا هذا السؤال : هل جميع الروائيين مجانين أو عصابيون ؟ فأجاب الكاتب الكبير : لا الأصح أن نقول أنهم كانوا سيصيرون جميعهم عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين.. فالقصاب يا سيدي، هو الذي يصنع الفنان، والفن هو الذي يشفيه وكان جوابا مقنعا ورائعا. فالواقع انه لولا العصاب لما كرس أشخاص من أمثال بلزاك أو ديستويفسكي أو فلوبير أنفسهم لفن الكتابة. ولولا أنهم نجحوا في هذا الفن وقدموا لنا روايات خالدة لما نجوا هم أنفسهم من مرض العصاب. هذه هي الدائرة المغلقة التي تجمع بين الابداع والمرض أو بين العبقرية والجنون. ولكن السؤال المطروح هو: لماذا يسقط في ليل الجنون حتى أولئك الذين أبدعوا ابداعا كبيرا؟ لماذا لم يحمهم الابداع _ أو الانتاج الابداعي _ من الجنون ؟ فلا أحد يشك في أن نيتشه من كبار الفلاسفة، ومع ذلك فقد جن بشكل كامل في أواخر حياته وظل مجنونا لمدة أحد عشر عاما حتى مات سنة 0 190، ولا أحد يشك في أن هولدرلين هو واحد من أهم الشعراء في العالم، ومع ذلك فقد أمضى نصف عمره تقريبا في بحر الجنون... والواقع انه تصعب الاجابة عن هذا السؤال، ولكن ربما التقينا به في مرحلة لاحقة، مهما يكن من أمر فإننا نظل متفقين مع اندريه موروا على القول بأن الفن يشفي من العصاب بشكل عام، ولولاه لجن معظم أولئك الكبار الذين سجلت أسماؤهم على صفحات التاريخ، ويكفي أن نستعرض سير حياتهم التي كتبت بعد وفاتهم لكي نتأكد من ذلك، وتكمن عظمتهم بالضبط في أنهم تجاوزوا عصابهم أو عقدتهم النفسية المتأصلة عن طريق الابداع. فلا ريب في أن الابداع يحرر من العقد ويعطي الشخصية ثقة بنفسها.
والواقع أن الجنون بالمعنى الذي نقصده، أي الجنون الابداعي، ليس مخيفا الى مثل هذا الحد بل ربما كان محببا وقريبا الى النفس. وهو على أي حال لا يؤذي أحدا، اللهم الا صاحبه... وكان يمكن أن استخدم محله كلمة التوتر الداخلي أو المعاناة أو الاضطراب النفسي الذي يدفع الى الابداع ويحل عن طريق الابداع. فالشخص المتوازن كيا، أي التافه والغبي لا يمكنه أن يشعر بأي حاجة للابداع..
من أجل الاستئناس بهذا الموضوع يستحسن بنا أن نعود الى الماضي لكتابة مقدمته التاريخية. يبدو أن افلاطون كان أول من انتبه الى هذه النقطة عندما قال بأن العباقرة يغضبون بسهولة ويخرجون عن طورهم. انهم يعيشون وكأنهم خارج الزمن والوجود، وذلك على عكس الناس العاديين. ولكن أرسطو_ تلميذ افلاطون _ هو الذي نظر لهذه العلاقة بشكل فلسفي محكم. وقد طرح هذا السؤال : لماذا يبدو جميع الرجال الاستثنائيين من فلاسفة وعلماء وشعراء وفنانين أشخاصا سوداويين ؟ نلاحظ أن أرسطو يستخدم كلمة الرجل الاستثنائي بدل العبقري، والسوداوي بدل المجنون. والواقع انه أقرب بذلك الى تصورنا الحديث. فنحن لم نعد نقبل بكلمة العبقري أو العبقرية بسهولة، وانما نفضل عليه تعبيرا أقل ضخامة أو أسطورية. ولم نعد نستخدم كلمة الجنون المرعبة وانما كلمات حديثة أخرى من اختراع الطب النفسي كالاضطراب الذي يصيب المزاج ويجعله حساسا جدا أو متحفزا جدا. ويقول أرسطو بأن السويداء تبتديء بميل الانسان الى الوحدة والعزلة والتأمل ثم تنتهي أحيانا بالصرع أو الجنون أو حتى الانتحار. ولكنها لدى المبدعين الكبار تتوقف عموما عند حد معين لأن الابداع يلجمها أو يوقفها عند حدها. ثم جاءت الثقافة الرومانية -اللاتينية بعد أرسطو واليونان وأخذت منه هذه الفكرة. ولذلك شاع المثل الذي يقول : لا يوجد شخص عظيم بدون حبة جنون ! واذا ما انتقلنا بعدئذ الى القرن الثامن عشر، أي الى عصر التنوير، وجدنا ان ديارو هو الذي بلور هذه الفكرة الشائعة التي تربط بين العبقرية والجنون. يقول هذا الفيلسوف الفرنسي : "آه : ما أكبر العلاقة بين العبقري والمجنون. فكلاهما يتميز بميزات خارقة للعادة إما باتجاه الخير واما باتجاه الشر. فالمجنون يسجن في المصح العقلي والعبقري نرفع له التماثيل !..
ثم جاء القرن التاسع عشر وتأسس علم الطب النفسي لأول مرة على أسس حديثة. وأكد على وجود هذه العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون. فالشخص العبقري لا يمكن أن يكون طبيعيا على طريقة الناس العاديين. يقول عالم الطب النفسي الكبير ايسكيورول بأن الشخصيات الكبرى في التاريخ هي شخصيات "مرضية " ويضرب على ذلك مثلا لوثي وباسكال، وجان جاك روسو، الخ... وقد استعاد هذه الفكرة بعده طبيب نفسي أقل شهرة هو "لولوت " الذي كتب السيرة الذاتية المرضية لشخصيتين كبيرتين هما : سقراط وباسكال وكان عنوان الأولى : "شيطان سقراط " والثانية "تعويذة باسكال " فالعبقري في رأيه شخص ممسوس أو مسكون من الداخل من قبل شيطان العبقرية. وقد عرفت العرب هذه الفكرة في الماضي عندما تحدثوا عن "وادي عبقر"،والالهام وشيطان الشعر... وقد أراد هذا الطبيب النفساني أن يستخدم حالة سقراط وحالة باسكال من أجل كتابة تاريخ الهلوسات. فالشخصيات الاستثنائية مهووسة بشي ء ما
لا تدري _ حتى هي _ كنها بالضبط. وهذا هو سر عبقريتها. وفي عام 1859 كتب "مورو دوتور" _ وهو طبيب نفساني. دراسة تحليلية لشخصية الشاعر جيرار دونرفال الذي كان قد انتحر قبل وقت قريب. وأثبت فيها أنه كان مصابا بتهيج هومي دوري، هو السبب في ابداعه. فحالة الابداع هي حالة هوسية يبلغ فيها التهيج حده الأقصى. ولو أن الشعراء والكتاب العرب تحدثوا لنا عن حالتهم النفسية أثناء عملية الابداع لقدموا لنا اضاءات مهمة عن العلاقة بين التوتر والابداع. ولكنهم لا يتجرأ ون على ذلك خشية أن ينعتوا بالجنون !..
نقول ذلك على الرغم من أن بعضهم قد انتحر بسبب هذه المعاناة المتوترة جدا، ونضرب عليهم مثلا الشاعر الكبير خليل حاوي. لكن الشعراء والمفكرين الأوروبيين لم يعودوا يخشون من ذلك بعد أن أزال التحليل النفسي تلك الهالة المرعبة التي كانت تحيط بالجنون والأمراض النفسية والعقد. بل إن بعضهم يفتخر بها للدلالة على مدى ابداعه وعبقريته ثم من أجل التمايز والخصوصية. والواقع ان مفكري أوروبا وشعراءها وفنانيها قد دفعوا ثمن تشكل الحداثة باهظا. فمن نيتشا الى بودلير الى رامبو الى هولدرلين الى انطو نين أرتو الى ميشيل فوكو الى لويس التو سير الى اد غار ألان بو الى فيرجينيا وولف الى كافكا الى لوتريا مون، نجد أن القائمة طويلة، طويلة من أولئك الذين جنوا أو عانوا أو انتحروا.. نعم أن هناك علاقة بين التوتر النفسي والابداع، ولكن ليس كل عبقري مجنونا، وليس كل مجنون عبقريا، فالعلاقة بينهما أكثر تعقيدا مما نظن. وهذا ما سنتعرض له تفصيلا فيما يلي :
في الجزء التاني ان شاء الله