عدد الرسائل : 12115العمر : 37تاريخ التسجيل : 28/08/2006 بطاقة الشخصية نقاط التميز:: لائحة هامة: .:
موضوع: ليلى صبار.. الوطن والذاكرة الجريحة 2009-03-31, 17:50
ليلى صبار.. الوطن والذاكرة الجريحة
بقلم : نهى أبوسديرة
عن مجلة العربي الكويتية
كثير منا يعرف من هي آسيا جبار.. الكاتبة الجزائرية المعروفة، ولكن السؤال هنا مَن مِن القراء العرب يعرف الكاتبة الشهيرة في المغرب العربي وفي فرنسا ليلي صبار؟
ليلى صبار، تلك المبدعة التى يعتبرها البعض كاتبة فرنسية لكونها تكتب باللغة الفرنسية ويعتبرها الكثيرون -كما تفضل هي نفسها - كاتبة جزائرية في المقام الأول.
أهدف في هذا المقال إلى تقديم بورتريه لشخصية كاتبة عربية - وإن كانت ولاتزال تكتب باللغة الفرنسية - أَثرت وأثّرت في الأدب المغاربي والفرنسي على حد سواء. وذلك من خلال إلقاء الضوء على بعض أعمالها على سبيل المثال لا الحصر بغرض التعريف بها وبأهميتها كنموذج للكاتبة العربية.
ليلى صبار نموذج له خصوصية شديدة، ولدت في الجزائر لأم فرنسية ولأب جزائري يعمل كلاهما في مجال التعليم، وتقيم حاليا في باريس. ولدت بالجزائر وعاشت فيها حتى السابعة عشرة من عمرها ثم اضطرت إلى الرحيل مع والديها إلى فرنسا فى عام 1968 والاستقرار بها نتيجة للأحداث السياسية الدامية في الجزائر إبان معارك مقاومة الاحتلال الفرنسي الذي انتهي بالاستقلال. وبعد الاستقلال لم تتمكن من العودة للاستقرار بالجزائر لأسباب تتعلق بالنشاط السياسى لوالدها. رحلت إذن ليلى صبار في مطلع شبابها إلى فرنسا وهي تحمل في طيات ذاكرتها - ذاكرة المرأة - ذكريات عن الوطن. رحلت وهي مرغمة ومقهورة على المغادرة، على أمل العودة يوما ما .بيد أن ذلك بات حلما بعيد المنال. إذ تصل إلى فرنسا وتستقر بها وتبدأ دراستها الجامعية وهي مهمومة بمشكلات الوطن - الجزائر - وتنطلق بعد ذلك في نشاط ودأب للكتابة الكتابة الروائية، قصص قصيرة، مقالات بل تخصص دراستها بعد ذلك في مجال العلوم الاجتماعية.
وتكتب ليلى صبار عن الوطن ولم يتبق لها منه سوى ما تحمله ذاكرتها من الأحداث والمواقف التي تلفها مشاعر مركبة وأحاسيس متباينة، متضاربة ومتصارعة عما يربطها بهذا الوطن . في أعماق نفسها- مستندة إلى الذاكرة -أحاسيس غامضة تجعلها تتساءل عن سر ذلك الانتماء إلى الجزائر حتى وبعد مغادرته منفية لسنوات طويلة.
ويستطيع القارئ، من خلال القراءة الأولى لروايات الكاتبة، ومن خلال قراءة سيرتها الذاتية- التي جاءت فى شكل «رسائل» - أن يلمس ذلك الهاجس الذي يهيمن على كل أعمالها، أولا، وهو «علاقتها الإشكالية بالوطن»، كذلك علاقتها المركبة والمرتبكة بما يفترض أن يكون عليه الوطن الثاني لها (فرنسا).
رسائل باريسية
من خلال قراءتنا وتحليلنا لأحد أهم أعمالها الأدبية - وهو سيرتها الذاتية- «رسائل باريسية: حكايات منفي»Lettres Parisiennes:Histoires d' exil تطرح ليلى صبار تساؤلها الوجودي المؤرق الذي يقض مضجعها يوميا. وبعد مرور 15 عاما على وجودها في باريس، تتساءل عما تمثله باريس - المنفى - وما تمثله الجزائر - الوطن الغائب - بالنسبة لها.
هذا العمل قدم في قالب «رسائل» رسائل موجهة إلى مبدعة أخرى هى نانسى هيوستن. ويعد هذا العمل سيرة حياة ليلى صبار بأكملها، وقد خطت فيها بأسلوب شعري عذب - يذكرنا بكتابة مارجريت دوراس- رؤيتها للحياة بصفة عامة وللمنفي بصفة خاصة، تصورها للعمل الجماعي والنسائي خاصة (هي التي أهتمت في مقالاتها ودراستها الاجتماعية بأحوال المرأة بشكل عام والمرأة الجزائرية بشكل خاص) وأيضا علاقتها باللغة الأم واللغة المكتسبة. كما قدمت لنا عبر هذه الرسائل بأسلوب يقطر مرارة وشجنا، ما تشعر به من ألم وحزن طاغيين ووحشة عارمة مدمرة.. وحشة المنفى: منفي المكان، منفى اللغة ومنفى الهوية.
قراءتنا لرسائل باريسية (سيرة ليلى صبار الذاتية) قادتنا إلى تلك الملاحظة التي تتأكد عبر قراءة هذا النص الفريد، وهي أن الشعور المؤلم والمؤرق بالنفي وحالة الانشطار النفسي التي عانتها الكاتبة كان دائما هو الدافع الرئيسي والمحرك المباشر والمولد للكتابة، وذلك كمحاولة لتجاوز تلك الأزمة ومواجهتها: أزمة المنفي والاغتراب، أزمة الهوية. فالكتابة بالنسبة لها وكما تقول: «هي عملية «تطهير» تخلص النفس من عذاباتها ومن أزماتها المزمنة والطارئة معا، وهنا تكون الكتابة في رأيها هي وسيلة لعلاج الأزمات النفسية والوجدانية.
تقارن كاتبتنا بين «عمل المرأة في منزلها وعمل المرأة واشتغالها بالكتابة» وتلمح أوجه التشابه بينهما، كلاهما في طقوسهما وفي ديمومتهما وتكرار أدائهما قادران كما تقول «على حماية المرأة من الموت أو الجنون».
المنزل المتسع والورقة البيضاء هما- من وجهة نظرها- مساحاتان مهيأتان تماما لعمل المرأة المبدعة، عليها إذن أن تتفاعل معهما. «المنزل والورقة، فضاءان تتخلق الحياة فيهما بشكل لانهائي». هذا ما تقوله ليلى صبار في حوار معها. يطلق النقاد على ليلى صبار لقب «كاتبة المنفى» فكتاباتها تنطلق من المنفى ثم تعود إليه ولا تحلق بقلمها إلا حوله.
رواياتها بشكل عام حافلة بالشخوص المغتربة/ المنفية: على سبيل المثال الزنوج، اليهود، العرب أو بتعبير آخر كل من أطلق عليه الغرب الاستعماري «الآخر» أو «الآخرين» الذين لا يرقون إلى طبقة المستعمر الغربى.
يقول النقاد عن إيقاع السرد فى رواياتها إنه بطيء،شأنه فى ذلك شأن بطء تدفق الذاكرة. تلك الذاكرة الملازمة دوماً للمنفى والتي برعت ليلى صبار في سبر أغوارها والنهل منها. ومن تلك الذاكرة التي جرحها النفي والترحال، واستحالة العودة للوطن، نسجت ليلى صبار خيوط أعمالها الأدبية، حيث عمدت إلى مزج الواقعي بالمتخيل والأسطوري, ففي «رسائل باريسية» تقول عن الوطن - المنفى:
«وإذا ما عدنا مرة أخرى لموضوع الجزائر، فأنا لم أستطع العودة إليها لمدة عشرة أيام - وحيدة في أحد فنادق مدينة الجزائر فى ديسمبر عام 1982 - إلا بعد أن انتهيت من كتابة «شهر زاد». إن شهر زاد الهاربة من روايتي قد تواطأت معى للعودة إلى مسقط رأسى ولكني توقفت قبل أن أصل إلى مسقط رأسي، الحقيقي، المكان الوحيد الذى يعد مؤسساً لحياتي، باعتباره أرضاً، وهى هذه المدرسة في القرية التي سبق أن حدثتك عنها. لم أذهب إلى قرية حنايا القريبة من تلمسان لم أغادر مدينة الجزائر، تلك المدينة ذات الطراز الأوربي الكولونيالي، مدينة لم أرتبط بها قط والتي أراها كأنها مدينة أجنبية. لم أرغب فى عودة يدفعها الحنين. أوقفتني شهر زاد عند مدينة الجزائر، وكان ذلك أفضل هذه المرة فلتذهب شهر زاد إلى الجزائر وحدها، من دوني هذه المرة، الجزائر المعاصرة لأنه يعتريني نوع من الخوف من الذهاب إلى حيث لم أعد أجد ما أفعله وإلى حيث لن أجد ما أحببت فى الحالة التي تركتها عليها، وذلك لأن أبدية المدارس والمنازل شيء لا يعرف الوجود».
عودة إلى الماضي
فى «أحدث رواياتها: «أنا لا أتحدث لغة أبي»، تتناول ليلى صبار منفى اللغة. ومن خلال طرح هذه الإشكالية تعود الكاتبة وعبر عملية المد والجزر التي تقوم بها الذاكرة إلى الماضي.. إلى الجزائر الوطن.. الوطن الممثل فى الأب؛ فقد أصبح الأب - وفقاً لمتطلبات الذاكرة - الممثل الأوحد للوطن!
كانت شديدة التعلق بالأب الجزائري، شديدة التعلق بكل ما يمثله، شديدة الانتماء لوطنها الجزائر. كم كانت تتمنى أن تحتفظ ذاكرتها بمفردات اللغة العربية وباللهجة الجزائرية ولكن «جرحت» ذاكرتها باضطرارها إلى مغادرة الوطن ولجوئها إلى باريس المنفى الاختياري/ الإجباري. «جرحت» ذاكرتها وانشطرت ذاتها وكل محاولات الكتابة ليست إلا سعياً وراء تضميد جرح الذاكرة.
في هذا العمل الشائق «أنا لا أتحدث لغة أبي» تحكي- مرتكزة إلى عبارات شديدة الدفء والحميمية- عن والدها، ذلك الأب الجزائري الذى كان لا يتحدث العربية إلا مع أبناء الشعب أو أقاربه وأخواته، بينما يتحدث الفرنسية مع زوجته، وبالطبع أبنته ليلى. وبعد استقرارهم في فرنسا، تستشعر ليلى فقد هذه اللغة تماماً والتي كانت تتناهى إلى سمعها وتحيط بها في موطنها الأول الجزائر. تفتقد هذه اللغة -العربية- والتي كانت تحمل معها ولها كل ما هو حميمي ويفوح منها عبق الوطن. وبفقدها لهذه اللغة - شأنها فى ذلك شأن آسيا جبار التي تناولت الموضوع نفسه في «الحب، الفانتازيا» - تستشعر ليلى صبار فقد كل تواصل مع الأب، فقد الأهل والوطن، فقد الهوية، فقد التاريخ.. التاريخ الشخصي وتاريخ الوطن.
وبذلك تصبح كل أعمال كاتبتنا سعياً للاحتماء بتاريخ الجزائر، تاريخ الأب، تاريخها الشخصي.
لقد نشأت ليلى صبار في ملتقى حضارتين، ثقافتين، لغتين، وباستقرارها فى فرنسا(ذلك المنفى الإجباري/ الاختياري) وهبت كل كتاباتها للبحث في طيات الذاكرة محاولة بعثها وإحيائها.. إحياء الماضي، ماضي الجزائر، ماضي الأب والعودة للجذور.
كانت إذن الذاكرة بالنسبة لليلى صبار هى الينبوع الذي تنهل منه فى كل كتاباتها، تلجأ إليها لمعالجة كل الموضوعات وترتكز عليها وتقبع فيها طويلاً تستلهم منها أهم كتاباتها الإبداعية من روايات ورسائل، حتى وإن كانت ذاكرة «جريحة».